انه اليوم أبيض .. اكتشفت هذا الأمر المذهل صباحاً ، عندما كنت أقلبه وأدوره أمام المرآة ، وفوجئت به أبيضا كذاكرة نظيفة .. صوتي اليوم أبيض ..
قلّمت أظافره الطويلة ..غسلت وجهه بالماء الدافئ .. ألقيت وشاحاً صوفياً على رقبته وحملته معي تحدثت به مع اصدقائي عن كل الأشياء التي أحبها وفاجئوني يسألون :
( ما بك؟! ) .
تسللتُ وإياه إلى جميع السطوح العالية في حارتنا وصرخنا معاَ، شعرت بحباله المعقودة منذ عشرات السنين تتقطع ، رغم ذلك ظل حيّاً .. ناصعاَ كصبح انتصار .
شربنا الشاي معاَ .. حكينا الحكايا الخبيثة والبريئة معاً .. أدخلنا الضوء إلى عطش العتمة وخرجنا دائخين .. شذبت منه فروع النميمة على الجارات المتكومات أمام بابنا كأكياس حطب مبلل ، ألقيت تحية الصباح عليهن ضاحك، انفتحت شبابيك كثيرة في حفر تجاعيدهن العميقة تعري دهشتهن ، فرحتُ أدلف منها أغتابهن بما تبقى لدي من رصيد ثرثرة قديمة .
تسولتُ وإياه على أرصفة الحي ، كنا سعداء كثيرا لأننا بقينا على قيد أمل ، رغم أن النهار فات ولم ترن الطاسة الفقيرة في حجرينا .
ربت على كتفيه بقوة وقلت له
كن جادا )
دفعته دفعة واحدة إلى المظاهرات ، نزل متحمساً تعرّق كثيرا ..تشعّث شعره .. احمّر وجهه وطفحت سحنته بعرق ساخن . لم يسمعه أحد ..لكنني سمعته ، كان غاضبًا وثائر اَو....جائعاَ .
جمعته بين يدي ووعدته بمفاجأة مذهلة ، ركضتُ كريح عمياء راح يلهث متسائلا .. تورمت قدماه ، صعدنا أعلى التلة ، كان متعبَاً لكنه ظل أبيضا تدحرجنا من أعلى التلة وضحكنا بصوت مهزوم ..
ركضتُ وصوتي نهرب من شيء نجهله ، لم تلحق بنا غزلان من ضوء كما كنا قد توهمنا أمسكته أهزه بعنف
ما زلت هادئا !) انفرطت جميع عقد الصمت المربوطة في تسنناته الصدئة انكسر عموده الفقري عندما هوى متخبطاَ ، بدا محياه لامعاً بابتسامة مكر خبيثة ودوى ثانية بضحكة بيضاء ..دار العمر بنا دورة سريعة ، لم يكن من صدى يعكر مزاج البياض فيرتد إلينا الصوت منكسرا أن . لا أحد .
تطفلت وإياه على البكاء ، رحنا نبتكر أصواتا مضحكة لطرائق البكاء ، ودون وعي تطفل البكاء على مزحتنا الثقيلة تلك وأجهشنا به نبكي ..
صوت الرعد كان هادئا ليس كصوتي الذي راح يعصر شعري متمتماً
أخشى عليك المرض )
بعد أن جففني قذفني في بركة تراب مبلل وهو يحلق منتحباً .
في دربنا إلى المدرسة غنينا كجوقة مفتوحة كجرح ، سمّرنا الأستاذ على المقاعد الخشبية ، ألقى إبرة كي يسمع رنينها ، ظل يعاود الكرة ، الإبرة بلا رنين ، لكزته كي نصمت عندما ضبطني الأستاذ وإياه نجرثم المكان بصخب وفوضى ، انسل إلى حنجرتي خائفاًَ ، سحبته من أذنه وقلت له: ( لا تبالي) عاد يتخبط فوق المقاعد يدوي صارخاًَ ، بصقتنا عصا الأستاذ خارج المدرسة كرذاذ ملوث .
عدت به أسأله إن كان يرى بياضه المذهل فاختّال راقصاًَ ، تركته يحلق وراء الصبية منتشية بعودته طفلاً ، راح يركض في الأزقة الضيقة هاتفاً معهم
عيــيــــــــــــــــــــش
الشياطين الصغار يتهمونه بأنه لا يجيد اللعب فهو صامت حيث يجب أن يصرخ .
هذه أنا اليوم مثل كل يوم ،أُفاجأ بصوتي كل صباح أبيض .وأتنبه مثل كل يوم إلى أنه رغم بياضه فهو يتبلد في حنجرتي كغيمة بدينة بالدماء ، أعرضه على الأطباء فيقولون لي بصوت أسود
أطلقيه..) .
حاولت السعال مرارا كي أبصقه من حلقي ، ألصقته بالحائط ، جربت إطلاق رصاصة عليه وفشلت .
ها أنا أتكوم أمام عتبة بابنا ككيس حطب مبلل ، أتأمله مثقل بضجيج هزائم يعدو أمامي وراء الصبية صارخا ملء ثقوب صمته وبياضه
عيييــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــش )
في وقت كان فيه شيء ما في حنجرتي ( يمـــــــــــــووووووت )